Warning: Use of undefined constant _PDF_FOR - assumed '_PDF_FOR' (this will throw an Error in a future version of PHP) in /home/awbd/public_html/article.php on line 454
موروث القبيلة على المستويين المادي والمعنوي :: أوابد :: مدونة عبد الرحمن بن ناصر السعيد
قصة مثل

موروث القبيلة على المستويين المادي والمعنوي

الأدبتميز العربُ عن غيرهم من الأممِ بالاهتمامِ بأنسابِها، بل إنهم أولوا أنسابَ الخيلِ وسلالاتِ الإبلِ اهتمامَهم، ولهذا تعدُ القبيلةُ مرتكزًا رئيسًا في بناءِ المجتمعِ العربي، ولأنّ لها هذا الشأنَ فقد دأبت الشعوبيةُ –وهم الذين يكرهون العربَ وينتقصونهم- منذ القدمِ على محاولةِ إلغاءِ القبيلةِ وطمسِها في الجزيرةِ العربيةِ وفي خارجِها؛ ومن ذلك الطعنُ في القبائلِ العربيةِ، وتأليبُ السلطةِ على القبيلةِ، ومحاولةُ إلصاقِ النقائصِ بالقبيلةِ، وما زالت بقايا الشعوبيةِ حاضرةً حتى يومِنا هذا؛ فمن أساليبهم محاولةُ الفصلِ بين أفرادِ القبيلةِ وموروثِها؛ لأنّ الفردَ يتعززُ ارتباطُه بالقبيلةِ بما لديها من موروثٍ معنويٍ وماديٍ خاصٍ بها على أنّ كلَّ موروثٍ ماديٍ يتضمنُ موروثًا معنويًا، وهذا ما لا يتوفرُ لدى غيرِهم؛ إذ الموروثُ الذي يمكنُ أن يتعلقوا به مشتركٌ بينَهم وبينَ غيرِهم.



فمثلاً دريدُ بنُ الصِّمةِ من فرسانِ العربِ المشهورين، وشاعرٌ جَزْلٌ، صاحبُ البيتِ السيارِ :

أَمَرتُهُمُ أَمري بِمُنعَرَجِ اللِوى = فَلَم يَستَبينوا النُصحَ إِلّا ضُحى الغَدِ




هذا الفارسُ الشاعرُ يعدُ من الموروثِ الثقافي للقبائل العربية جمعاء، ويعد –أيضًا- موروثًا خاصًا لقبيلة عتيبةَ تفتخر به دون سواها من القبائل العربية بوصفه إرثًا خاصًا بهم، وتفتخر به القبائل العربية بوصفه عربيًّا.



إن الارتباط بالموروث المادي والمعنوي للقبيلة لا يعني الاعتمادَ على الموروث فقط؛ إذ إن ذلك نقيصة؛ لأن شرفَ الآباء يتممه شرفُ الأبناء، ولا خير في ابن لا يحفظ موروثه، وشر منه من لا يتحلى بشمائل آبائه الحميدة، وكما قال طرفة بن العبد البكري:

وَرِثوا السُؤدُدَ عَن آبائِهِمْ = ثُمَّ سادوا سُؤدُدًا غَيرَ زَمِر




والزمر : القصير.



وافتخر دريد بن الصمة بأن شجاعته وحمايته الذمارَ امتدادٌ لشرف آبائه:

وَإِنّي أَخوهُمْ عِندَ كُلِّ مُلِمَّةٍ = إِذا مُتُّ لَم يَلقَوا أَخًا لَهُمُ مِثلي

تَجودُ لَهُمْ نَفسي بِما مَلَكَت يَدي = وَنَصري فَلا فُحشي عَلَيهُمْ وَلا بُخلي

وَمَولًى دَفَعتُ الدَرءَ عَنهُ تَكَرَّمًا = وَلَو شِئتُ أَمسى وَهوَ مُغضٍ عَلى تَبلِ

وَلَكِنَّني أَحمي الذِمارَ وَأَنتَمي = إِلى سَعيِ آباءٍ نَمَوا شَرَفي قَبلي





ويحكى أن الحجاج ذكر عنده رجل بالجهل، فأراد اختباره، فقال: أعظامي أم عصامي؟

أراد: أشرُفت بآبائك الذين صاروا عظامًا، أم بنفسك؟

فقال الرجل: أنا عصامي عظامي.

فقال الحجاج: هذا أفضل الناس؛ وقضى حاجته وزاده، ومكث عنده مدة، ثم فاتشه فوجده أجهل الناس فقال له: تصدقني وإلا قتلتك.

قال له: قل ما بدا لك وأصدقك.

قال: كيف أجبتني بما أجبت لما سألتك عما سألت؟

قال له: والله لم أعلم أعصامي خير أم عظامي، فخشيت أن أقول أحدهما فأخطئ، فقلت: أقول كليهما فإن ضرني أحدهما نفعني الآخر؛ وكان الحجاج ظن أنه أراد، أفتخر بنفسي لفضلي وبآبائي لشرفهم.



والانتماء إلى القبيلة ليس محرمًا ولا نقيصةً كما تروج الشعوبية لذلك؛ فقد افتخر النبي –صلى الله عليه وسلم- بموروثه المعنوي متمثلاً في جده عبد المطلب حين قال : «أنا ابن عبد المطلب» ولم يذكر والده «عبد الله»؛ لأن جده عبد المطلب أعظم شأنًا، قال ابن إسحاق: «وكان عبد المطلب من سادات قريش ، محافظًا على العهود، متخلقًا بمكارم الأخلاق، يحب المساكين، ويقوم في خدمة الحجيج، ويطعم في الأزمات، ويقمع الظالمين، وكان يطعم حتى الوحوش والطير في رؤوس الجبال». وافتخر –صلى الله عليه وسلم- بانتمائه إلى عبد مناف كما يروى في كتب السير؛ ومن ذلك ما أخرجه أبو علي القالي في أماليه قال : حدّثنا أبو بكر بن الأنباري

-رحمه الله - قال حدّثني أبي عن أحمد بن عبيد عن الزيادي عن المطلب بن المطلب بن أبي وداعة عن جده قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر -رضي الله تعالى عنه- عند باب بني شيبة فمرّ رجل وهو يقول:

يا أيّها الرجل المحوّل رحله = ألاّ نزلت بآل عبد الدار

هبلتك أمّك لو نزلت برحلهم = منعوك من عدم ومن إقتار



قال: فالتفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر فقال: أهكذا قال الشاعر؟

قال: لا والذي بعثك بالحق؛ لكنه قال:

يا أيها الرجل المحوّل رحله = ألا نزلت بآل عبد مناف

هبلتك أمك لو نزلت برحلهم = منعوك من عدم ومن إقراف



إلى آخر الأبيات



والأبيات لمطرود بن كعب الخزاعيّ.



وافتخر الرسول –صلى الله عليه وسلم- بموروثه المعنوي متمثلًا بانتمائه إلى قريش.



وافتخر –صلى الله عليه وسلم- بخؤولته ممثلة في سعد بن أبي وقاص وقال : «هذا خالي فليرني امرؤ خاله».



وفي حروب الردةِ حين اشتد الأمر بالمسلمين وكانت يومئذ سجالاً مرة على المسلمين ومرة على الكافرين لجأ خالد بن الوليد –رضي الله عنه- إلى الانتماء القبلي؛ إذ قال :«أيها الناس امتازوا لنعلم بلاء كلِ حي، ولنعلم من أين نُؤتى»، فامتاز أهل القرى والبوادي، وامتازت القبائل من أهل البادية وأهل الحاضرة؛ فوقف بنو كل أب على رايتهم.

ومما ينسب إلى علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- أنه قال لما أسلمت قبيلة همدان على يده:

فَلو كُنتَ بَوّابًا عَلى بابِ جَنَةٍ = لَقُلتُ لِهَمدانَ اِدخلوا بِسلامِ




وفرق بين الاعتزاز بالانتماء إلى القبيلة وبين غمط الناس والتكبر عليهم؛ إذ الكبر ليس من شيم أهل الفضل، وما تكبر أحد إلا لنقص يراه في نفسه؛ لكن الشعوبية خلطت بين الأمرين فجعلتهما أمرًا واحدًا لفقدهم الانتماء، فأرادوا تعييب غيرهم ممن لهم انتماء؛ وليس بين الانتماء إلى القبيلة وبين الكِبر تلازم؛ فأبناء القبيلة يعتزون بانتمائهم إليها دون أن ينتقصوا أحدًا كما يعتز غيرهم من أبناء القبائل الأخرى دون أن ينتقصوا أحدًا، ولهذا يرددون جملاً تدل على احترامهم للآخرين كقولهم «دون قصور في القبائل الأخرى»، وإذا حصل من أحد سوء قالوا : «في كل عود دخانه».



ويعتز أهل البلدان والمدن بإقليمهم دون انتقاص للبلدان الأخرى كما يعتز الآخرون ببلدانهم وهكذا دواليك، والجميع في هذا الوطن يعتز بالانتماء إلى هذا الوطن الغالي المبارك دون أن يكون في ذلك نقيصةٌ لمواطني الدول الأخرى، فهذا والاعتزاز بالانتماء إلى القبيلة سواء؛ إنما المحظور أن يصاحب هذا الاعتزازَ غمط للحقوق، أو احتقارٌ لأحد، وبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.



فمما يعزز الانتماء الجماعي للقبيلة ما تملكه من جانب مادي متوراث كالخيل والإبل والمال والدور. وهذا الموروث المادي المتوارَث له مكانة رفيعة في النفوس؛ لأنه اجتمع فيه أمران : العزةُ والارتباطُ بالآباء والأجداد؛ فحين يرى المرء خيلاً أمامه قد ورثها من آبائه فإنها تزيد في انتمائه وتدخل السرور في نفسه؛ لأنها تتضمن ذكرياتٍ لآبائه الذين صارت لهم قصصٌ مع هذه الخيل، فتتحول هذه الذكرياتُ إلى دافع معنوي للمرء نفسه ليحتذي حذو آبائه وليحفظ مكارم الأخلاق والعزة اللتين تحلوا بها، وهذا ما اجتمع في الخيل : موروثٌ مادي أدى إلى موروث معنوي.



وقد اعتمد الشعراء على هذا الجانب كقول عمرو بن كلثوم التغلبي في وصف الخيل من معلقته:



وَتَحمِلُنا غَداةَ الرَوعِ جُردٌ = عُرِفنَ لَنا نَقائِذَ وَاَفتُلينا

وَرَدنَ دَوارِعًا وَخَرَجنَ شُعثًا = كَأَمثالِ الرَصائِعِ قَد بَلينا

وَرِثناهُنَّ عَن آباءِ صِدقٍ = وَنُورِثُها إِذا مُتنا بَنينا





فبعد وصفه الخيل مادحًا لها، نسب صفاتِها إلى الموروث المادي «وَرِثناهُنَّ عَن آباءِ صِدقٍ» فقد ورث الخيل بصفاتها التي عودها آباؤه عليها، وهذا يتضمن الموروثَ المادي في الخيل نفسها، والموروث المعنوي في قيمتي الشجاعة والعزة لآبائه؛ فاتحد الموروثان ليرتفعا بذلك عن الموروث المادي الصرف والموروث المعنوي الصرف.

ولعلو شأن هذا الاتحاد في الموروث أكد عمرو بن كلثوم التغلبي على حفظه الإرثَ، وأنه كما ورثه من آباء صدق فسيورِّثُه آبناءه؛ ليتراكم الموروث جيلاً بعد جيل حتى يصبح هذا الموروث قيمة اجتماعية ثابتة، ويعضد ذلك قول الراعي النميري:



هُمُ فَخَروا بِخَيلِهِمُ فَقُلنا = بِغَيرِ الخَيلِ تَغلِبُ أَو عِدينا

لَنا آثارُهُنَّ عَلى مَعَدٍّ = وَخَيرُ فَوارِسٍ لِلخَيرِ فينا

وَعُلِّمنا سِياسَتَهُنَّ إِنّا = وَرِثنا آلَ أَعوَجَ عَن أَبينا





وآل أعوج خيل لبني هلال من هوازن؛ فالراعي النميري أسند تعليم سياسية الخيل إلى أسلافه الذين ورث عنهم الخيل، وهذا يعني أن معرفته بالخيل معرفة دقيقة؛ لأنها حصيلة أسلاف تعاملوا مع هذه الخيل.



ومن الموروث المادي المرتبط بالخيل : السلاحُ وما يتبعه، وقيمة السلاح فيمن يستخدمه وليس في جنسه، ومما يروى أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- بعث إلى عمرو بن معد يكرب الكندي أن يبعث إليه بسيفه المعروف بالصمصامة، فبعث به إليه، فلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه، فكتب إليه في ذلك؛ فرد عليه: إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف، ولم أبعث إليه بالساعد الذي يضرب به!



وللسلاح المتوراث قيمة أعلى؛ لأنه قد جُرّب ولأنه يحمل قيمة معنوية لمن حمله من الآباء من قبل، ولهذا قال النابغة الذبياني في مدح عمرِو بنِ الحارث ابنِ أبي شَمِر الغساني :



وَلا عَيبَ فيهِمْ غَيرَ أَنَّ سُيوفَهُمْ = بِهِنَّ فُلولٌ مِن قِراعِ الكَتائِبِ

تُوُرِّثنَ مِن أَزمانِ يَومِ حَليمَةٍ = إِلى اليَومِ قَد جُرِّبنَ كُلَّ التَجارِبِ





فاستند النابغة الذبياني في مدحه على الموروث المادي «السيوف» المسنتدِ على الموروث المعنوي «انتصار الأجداد» فزاد من قيمة المدح، ولعل الممدوح بلغ نشوته حين سمع البيت الثاني المتعلقَ بانتصار أجداده.



وقريب من هذا قول جريرِ بنِ عطيةَ التميميّ:

وَأَورَثَنا آباؤُنا مَشرَفِيَّةً = تُميتُ بِأَيدينا فُروخَ الجَماجِمِ




فإنه من المعلوم أن المشرفية تميت؛ ولم يقصد جريرٌ إعلام الآخرين بأن لديه مشرفيةً هذه صفتها؛ إذ الناس لديهم سيوفٌ كسيوفه؛ لكن جريرًا اتكأ على الموروث ليبين أفضيلة هذه السيوفِ التالدةِ عن السيوف الطارفة.



ومن الموروث المادي : المال؛ وهو أقل الموروثات المادية ذكرًا؛ ويرجع ذلك إلى أن المال متنقلٌ، ولهذا لا يمكن أن ترتبط به أحداث؛ إنما ترتبط الأحداث بما أُنفقَ المال فيه، كما يروى أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال لبعض ولد هرمِ ابنِ سنانٍ المُريّ: أنشدني بعض مدح زهيرٍ أباك، فأنشده. فقال عمر: إنْ كان ليحسن فيكم القول. قال: ونحن والله إن كنا لنحسن له العطاء. فقال: قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.



فمن ذكر المال قول امرئ القيس بن حجر الكندي:

وَكُنّا أُناسًا قَبلَ غَزوَةِ قَرمَلٍ = وَرَثنا الغِنى وَالمَجدَ أَكبَرَ أَكبَرا




وقرمل : ملك من ملوك حمير، فامرؤ القيس ملك ابن ملك، وارتباط الغنى بالملوك نتيجة بدهية، فلهذا عمد امرؤ القيس إلى الموروث ليعطي الغنى قوة معنوية؛ فبين أن غناه ليس طارئًا بل هو متوارثٌ كابرًا عن كابر.



هذا ما يتعلق بالموروث المادي.



وأما على المستوى المعنوي فإن الموروث أبقى وأعمق تأثيرًا؛ لأن المادة يندر أن تبقى وكثيرًا ما يصيبها العطبُ عكس الموروث المعنوي الذي تتناقله الأجيال؛ إضافة إلى أن الموروثَ الماديَ يمكن أن ينحصرَ في نسل معين من القبيلة ولا يمتلكه غيرُ أهله؛ لكن الموروثَ المعنويَ يمكن أن يتحلى به أي فرد من أفراد القبيلة؛ كالشجاعة مثلاً؛ إذ يحق لأي فرد اتصف بها أن يكتسبها بينما لا يحق له اكتسابُ الموروثِ المادي؛ وإن اكتسبه بطريق مشروعة أو غير مشروعة فلا يفتخر به إنما يفتخر بحيازته.



فمن الموروث المعنوي : العزة التي تأبى الضيم، وهذه الخصلة يلقنها الآباءُ الأبناءَ مدعمين هذا التلقينَ بحوادثَ لأسلافهم تثبت عزتهم ومنعتهم، ثم يضيف الأبناء رصيدًا إلى هذه الحوادثِ ويلقنونها أبناءهم حتى تجتمع حوادثُ عدةٌ تشكل موروثًا كبيرًا للقبيلة تتناقلها أجيالهم وأجيالُ غيرهم من القبائل الأخرى؛ فمن رَصْدٍ للعزة والإباء قولُ عمرو بن كلثوم التغلبي من معلقته :



فَهَل حُدِّثتَ في جُشَمَ بنِ بَكرٍ =بِنَقصٍ في خُطوبِ الأَوَّلينا

وَرِثنا مَجدَ عَلقَمَةَ بنِ سَيفٍ = أَبَاحَ لَنا حُصونَ المَجدِ دينا

وَرِثتُ مُهَلهِلاً وَالخَيرَ مِنهُ = زُهَيرًا نِعمَ ذُخرُ الذاخِرينا

وَعَتّابًا وَكُلثومًا جَميعًا = بِهِم نِلنا تُراثَ الأَكرَمينا

وَذا البُرَةِ الَّذي حُدِّثتَ عَنهُ = بِهِ نُحمى وَنَحمي المُحجَرينا

وَمِنّا قَبلَهُ الساعي كُلَيبٌ = فَأَيُّ المَجدِ إِلّا قَد وَلينا





يعني جشمَ بنَ بكر بن حبيب بن عمرو بن غَنْم بن تغلب بن وائل، وعلقمةُ ابنُ سيف بن شراحيلَ بنِ معشر بن مالك بن جشم بن بكر له وقعة مشهورة يوم سفح مُتَالع، ومهلهل بنُ ربيعة التغلبي خبره منتشر على كل لسان، وزهيرُ بنُ جشم ابن بكر والدُ جدِّ كليب ومهلهل وجدُ جدِّ الشاعر، وعتاب جدُ والدِ الشاعر قاتلُ شراحيلَ بنِ مرة بن هَمام، وكلثوم والده، وذو البرة : كعب بن زهير بن جشم ابن بكر، وكليب بن ربيعة أخو مهلهل وهما خالا الشاعر؛ فقد سرد عمرو بن كلثوم أسلافه الذين لهم حوادث تدل على العزة والمنعة للدلالة على تأصلهما فيه وفي قومه، ولهذا لم يشر إلى جده «مالك»؛ لأنه ليس له وقعة مشهورة يمكن أن تكون موروثًا.



ومن الموروث المعنوي المرتبط بالعزة : الشجاعة؛ فشجاعة المرء تنبع من نفسه فإذا أضيف إليها شجاعةُ أفراد قبيلته صارت عمادًا قويًّا له، وربما غيّرت مَن فيه جبن حفاظًا على هذا الموروث، ويمكن إرجاعُ جزء من شجاعة الفرسان إلى موروثهم؛ إذ يُربون من صغرهم على الشجاعة وأن جدهم كان شجاعًا فتنمو في نفوسهم الشجاعة، وهذا ما عبر عنه أبو دلامة َمولى بني أسد حين طلب منه روحُ ابنُ حاتم بن قبيصةَ بن المهلب بن أبي صفرةَ الأزديُّ الخروجَ معه لقتال الخوارج، فقال :



إنّي أَعُوذُ بِرَوحٍ أن يُقَدّمَنِي = إلى البِرازِ فَتَخزَى بي بَنُو أَسَدِ

إنّ البِرَازَ إلى الأقرَانِ أعلَمُهُ = مِمَّا يُفرِّقُ بَينَ الرُّوحِ والجَسَدِ

قَد حالَفَتكَ المَنَايَا إذ صَمَدتَ لَها = وأَصبَحتَ لِجَميعِ الخَلقِ بالرَّصَدِ

إنَّ المُهَلَّبَ حُبَّ المَوتِ أَورَثَكُم = وَمَا وَرِثتُ اختِيارَ المَوتِ عَن أحَدِ

لَو أنَّ لي مُهجَةً أُخرَى لَجُدتُ بِهَا = لكِنَّها خُلِقَت فَردًا فَلَم أجُدِ





فالمهلب بن أبي صفرة الأزديّ قائد عرف بالشجاعة وربى أبناءه على ذلك فورّثها الأبناءُ الأحفادَ، ولهذا عبر أبو دلامة عن شجاعة روح بأنه إرث من المهلب؛ لتسلسل الشجاعة فيهم كتسلسل نسبهم، وهذا ما أشار إليه كعبُ بنُ مالك الخزرجيُّ الأنصاريُّ:

وَعَلَّمَنَا الضَّرَبَ آبَاؤُنَا = وَسَوْفَ نُعَلِّمُ أيضًا بَنِينَا




فذكر أن الضرب بالسيف علم متوراث إشارة إلى شجاعة آبائه، وبعض النصوص الشعرية تكتفي بذكر الموروث للدلالة على الشجاعة : كقول حريث المازني:

بنو الحرب لم تَقعُد بهم أمهاتُهمْ = وآباؤهم آباءُ صدقٍ فأنجَبوا




فلم يشر إلى شجاعتهم؛ لأنها معلومة من خلال جهتي النسب : جهة الأمهات وجهة الأباء.



ومن الموروث المعنوي : مكارم الأخلاق، وهي أجل الموروثات المعنوية؛ لأنها تصل بالإنسان إلى مراتبَ عليا، ولهذا قال الرسول –صلى الله عليه وسلم- :«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وأكد –صلى الله عليه وسلم- على قيمة الموروث في هذا الجانب حين قال : «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا».

وهذا الموروث من أعظم وسائل الضبط الاجتماعي، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم في قصة مريم قال تعالى {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا } ، فإن قومها استندوا إلى موروث القيم التي تنتمي إليها مريم ممثلةً في «أخت هارون» وإلى مكانة والدها ومكانة أمها، ولهذا تعجبوا من رؤية طفل معها وليست ذاتَ زواج، ولو لم يكن لمريمَ موروثٌ كريمٌ لما تعجبوا؛ لأن الموروث قد يكون سيئًا فلا يُستغرب ممن صدرت من إساءة إذا كان موروثُه سيئًا كما قال القطامي:

أبي عنه وَرِثتُ سوامَ مَجدٍ = وكلُّ أبِ سيورِثُ ما يسومُ




واتكأ الشعراء على هذا الجانب مبينين أن سبب ترك المساوئ يرجع إلى كرم الآباء، كما في قول قيس بن الخطيم:

أَبى الذَمَّ آباءٌ نَمَتني جُدودُهُمْ = وَمَجدي لِمَجدِ الصالِحينَ مُعينُ




وقول الحطيئة :

كِرامٌ أَبى الذَمَّ آباؤهُم = فَلا يَجعَلونَ لِلَومٍ سَبيلا




وقول خِداشِ العامري:

أَبي فارِسُ الضَحياءِ عَمروُ بنُ عامِرٍ = أَبى الذَمَّ وَاختارَ الوَفاءَ عَلى الغَدرِ




ففي هذه النصوص نفي الذم، وسبب النفي يرجع إلى كرامة الآباء؛ وذلك أن كرم الآباء يردع الأحفاد عن الوقوع في الذم، ويحفزهم على التحلي بما تحلى به آباؤهم، حتى إن المرء تمر عليه أصعبُ الظروف فيمتنعُ عن الوقوع في غير ما عُرِفَ به موروثُه حفاظًا عليه كمن اشتهر أجداده بالكرم فإنه يبذل ما لديه كلَّه من أجل الحفاظ على هذا، ويمتنع في أحرج اللحظات عن العيب وإن كان متنفسًا له؛ لأن العيب لا يلتصق به فقط، بل يجلبه على غيره ممن يشتركون معه في الانتماء.



وكثيرًا ما يُستند على هذا الموروث لتأصيل الصفات الكريمة في الممدوح، كما قال زهير بن أبي سلمى المزني يمدح هرمَ بنَ سنان المري:

فَما يَكُ مِن خَيرٍ أَتَوهُ فَإِنَّما = تَوارَثَهُ آباءُ آبائِهِم قَبلُ

وَهَل يُنبِتُ الخَطِّيَّ إِلّا وَشيجُهُ = وَتُغرَسُ إِلّا في مَنابِتِها النَخلُ





الخطي : نوع من القصب، والوشيج : العروق.



فجعل زهير الخير في الممدوح من خصائصه كأنه من جيناته؛ إذ الخيرُ وراثةٌ من أجداده، وهو نتيجة حتمية كما أن عروق القصب ينبت منها القصبُ كاملاً، وكما أن النخل له مغارسُه الطيبة فكذا خير الممدوح من مغارسَ طيبة.



ومن مكارم الأخلاق التي تميز بها العرب: الكرم، وحرص الشعراء على إبراز هذه الخصلة الحميدة ضمن الموروث المعنوي كقول الراعي النميري:

وَمَن يَفخَر بِمَكرُمَةٍ فَإِنّا = سَبَقناها لِأَيدي العالَمينا

عَصا كَرَمٍ وَرَثناها أَبانا = وَنورِثُها إِذا مِتنا بَنينا





وقد جسد لبيد بن ربيعة العامريّ –رضي الله عنه- أنواع الكرم في معلقته؛ فبين أنه ينحر الإبل حتى كأن الضيف والجار قد حلوا موقع تبالة وقد أخصب، وترى العجائز قد اجتمعن لأخذن نصيبهن من اللحم، وإذا اشتد البرد وقل الطعام رأيت الأيتام قد اجتمعوا على الطعام كأن ما بينهم وبين القدر شوارع من أثر الطعام، كل هذا سنة سنها آباؤهم وهم سائرون على سنتهم، يقول لبيد :



وَجَزورِ أَيسارٍ دَعَوتُ لِحَتفِها = بِمَغالِقٍ مُتَشابِهٍ أَجسامُها

أَدعو بِهِنَّ لِعاقِرٍ أَو مُطفِلٍ = بُذِلَت لِجِيرانِ الجَميعِ لِحامُها

فَالضَيفُ وَالجارُ الجَنيبُ كَأَنَّما = هَبَطا تَبالَةَ مُخصِبًا أَهضامُها

تَأوي إِلى الأَطنابِ كُلُّ رَذِيَّةٍ = مِثلُ البَلِيَّةِ قالِصٌ أَهدامُها

وَيُكَلِّلونَ إِذا الرِياحُ تَناوَحَت = خُلُجًا تُمَدُّ شَوارِعًا أَيتامُها

إِنّا إِذا اِلتَقَتِ المَجامِعُ لَم يَزَلْ = مِنّا لِزازُ عَظيمَةٍ جَشّامُها

وَمُقَسِّمٌ يُعطي العَشيرَةَ حَقَّها = وَمُغَذمِرٌ لِحُقوقِها هَضّامُها

فَضلاً وَذو كَرَمٍ يُعينُ عَلى النَدى = سَمحٌ كَسوبُ رَغائِبٍ غَنّامُها

مِن مَعشَرٍ سَنَّت لَهُمْ آبائُهُمْ = وَلِكُلِّ قَومٍ سُنَّةٌ وَإِمامُها





فبعد أن ذكر لبيد الكرم وفصّل فيه، أضاف إلى الجانب المادي جانبًا معنويًا؛ وهو أن الكرم شيء ثابت في أصولهم؛ لأنها سنة آباء وليست طارئة عليهم، فالموروث متتابع من الآباء إلى الأبناء، يقول أرطاة بن سهية الغطفاني :

نبني لآخرنا مجدًا نُشَيِّدُه = إنا كذاك ورثنا المجدَ أولانا




ويلحظ أن النصوص الشعرية لا تبتدئ بالموروث المادي أو المعنوي، بل تقرر القيمة الفضلى كالكرم والشجاعة وتثبتها، ثم تدعمها بالموروث إشارة إلى أن الأساس هو عمل الأبناء وأن الموروث رافد للأبناء.



إن هذا الموروث بشقيه المادي والمعنوي من أكبر الدِّعامات لترسيخ حب الوطن -خلافًا لما تروج له الشعوبية من أنه خطر على الوحدة الوطنية- فكلما ازدادت حصيلة الفرد من موروثه زاد لديه الانتماءُ إلى هذا الوطن؛ لأن موروثَه يتضمن الأماكنَ التي سكن فيها آباؤه فيتعززُ لديه التعلقُ بها، ويتضمن موروثَه قصصًا وحوادثَ وآثارًا مرتبطةً بالمكان وبمن يسكنه، فلهذا يحرص على المحافظة عليه، ويحرص على أمن وطنه ورفعته؛ لأنه الأرض التي مشى عليها أجداده وأخواله، وفي كل بقعة منه شاهد يحكي تأريخًا، كل هذا يغرس الوطنية في النفس، وأما الذي ليس لديه ما يربطه بهذه الأرض فما الموجب لحبه لها؟!

لهذا كان من حق الأجداد حفظ ُموروثهم الماديِ والمعنويِ ليسير الأبناء مسيرةَ آبائهم؛ ومن الحفاظ على الموروث منتديات القبائل المنضبطة في الشبكة العنكبوتية خلافًا للشعوبية الذين تقض مضاجعهم مثل هذه المنتديات لا لشيء إلا لفقدهم الانتماء.



ومن الحفاظ على موروث القبيلة هذا الملتقى الكريمُ الذي يربط الجيل الحاضر بماضيه، وليس في هذا الملتقى ولا غيره من ملتقيات الإبل إضرار بأحد أو مساس بالأمن الوطني أو غمط لحقوق؛ وإنما هاج من هاج؛ لحسد في نفوسهم ولفقدهم مثل هذا الموروث، وحاولوا تأليب السلطة على القبيلة في محاولة لطمس أي أثر للعرب في جزيرة العرب.



وأقول للقبائل العربية : حافظوا على حفظ موروثكم، وكونوا كما قال القتال الكلابي :

ما ضاعَ مَجدُ أَبٍ وَرِثتَ تُراثَهُ = إِذ كانَ مَجدُ أَبٍ لآخَرَ ضائِعا




والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



=



محاضرة ألقيت في ملتقى مزايين قبيلة عتيبة



مساء الخميس 13/10/1428هـ



=



[تنبيه : لم تشر جريدة الرياض في عددها الصادر اليوم السبت 15 شوال 1428هـ - 27 أكتوبر 2007م - العدد 14369 في موضوع فعاليات ملتقى (عتيبة) لمزايين الإبل تتواصل) إلى هذه المحاضرة؛ إذا أشارت إلى المحاضرة التي قبلها وإلى ما بعدها]

عبد الرحمن بن ناصر السعيد

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 5719 | تأريخ النشر : السبت 16 شوال 1428هـ الموافق 27 أكتوبر 2007م

_PDF_FORموروث القبيلة على المستويين المادي والمعنوياضغط على الصورة للحصول على المقال بصيغة PDF

طباعة المقال

إرسال المقالة
موروث القبيلة على المستويين المادي والمعنوي تميز العرب عن غيرهم من الأمم بالاهتمام بأنسابها، بل إنهم أولوا أنساب الخيل وسلالات الإبل اهتمامهم، ولهذا تعد القبيلة مرتكزا رئيسا في بناء المجتمع العربي، ولأن لها هذا الشأن فقد دأبت الشعوبية –وهم الذين يكرهون العرب وينتقصونهم- منذ القدم على محاولة إلغاء القبيلة وطمسها في الجزيرة العربية وفي خارجها؛ ومن ذلك الطعن في القبائل العربية، وتأليب السلطة على القبيلة، ومحاولة إلصاق النقائص بالقبيلة، وما زالت بقايا الشعوبية حاضرة حتى يومنا هذا؛ فمن أساليبهم محاولة الفصل بين أفراد القبيلة وموروثها؛ لأن الفرد يتعزز ارتباطه بالقبيلة بما لديها من موروث معنوي ومادي خاص بها على أن كل موروث مادي يتضمن موروثا معنويا، وهذا ما لا يتوفر لدى غيرهم؛ إذ الموروث الذي يمكن أن يتعلقوا به مشترك بينهم وبين غيرهم. فمثلا دريد بن الصمة من فرسان العرب المشهورين، وشاعر جزل، صاحب البيت السيار : أمرتهم أمري بمنعرج اللوى = فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',1) هذا الفارس الشاعر يعد من الموروث الثقافي للقبائل العربية جمعاء، ويعد –أيضا- موروثا خاصا لقبيلة عتيبة تفتخر به دون سواها من القبائل العربية بوصفه إرثا خاصا بهم، وتفتخر به القبائل العربية بوصفه عربيا. إن الارتباط بالموروث المادي والمعنوي للقبيلة لا يعني الاعتماد على الموروث فقط؛ إذ إن ذلك نقيصة؛ لأن شرف الآباء يتممه شرف الأبناء، ولا خير في ابن لا يحفظ موروثه، وشر منه من لا يتحلى بشمائل آبائه الحميدة، وكما قال طرفة بن العبد البكري: ورثوا السؤدد عن آبائهم = ثم سادوا سؤددا غير زمرdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',2) والزمر : القصير. وافتخر دريد بن الصمة بأن شجاعته وحمايته الذمار امتداد لشرف آبائه: وإني أخوهم عند كل ملمة = إذا مت لم يلقوا أخا لهم مثلي تجود لهم نفسي بما ملكت يدي = ونصري فلا فحشي عليهم ولا بخلي ومولى دفعت الدرء عنه تكرما = ولو شئت أمسى وهو مغض على تبل ولكنني أحمي الذمار وأنتمي = إلى سعي آباء نموا شرفي قبلي doPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="1,red" star="***,green" style="display:none"',3) ويحكى أن الحجاج ذكر عنده رجل بالجهل، فأراد اختباره، فقال: أعظامي أم عصامي؟ أراد: أشرفت بآبائك الذين صاروا عظاما، أم بنفسك؟ فقال الرجل: أنا عصامي عظامي. فقال الحجاج: هذا أفضل الناس؛ وقضى حاجته وزاده، ومكث عنده مدة، ثم فاتشه فوجده أجهل الناس فقال له: تصدقني وإلا قتلتك. قال له: قل ما بدا لك وأصدقك. قال: كيف أجبتني بما أجبت لما سألتك عما سألت؟ قال له: والله لم أعلم أعصامي خير أم عظامي، فخشيت أن أقول أحدهما فأخطئ، فقلت: أقول كليهما فإن ضرني أحدهما نفعني الآخر؛ وكان الحجاج ظن أنه أراد، أفتخر بنفسي لفضلي وبآبائي لشرفهم. والانتماء إلى القبيلة ليس محرما ولا نقيصة كما تروج الشعوبية لذلك؛ فقد افتخر النبي –صلى الله عليه وسلم- بموروثه المعنوي متمثلا في جده عبد المطلب حين قال : «أنا ابن عبد المطلب» ولم يذكر والده «عبد الله»؛ لأن جده عبد المطلب أعظم شأنا، قال ابن إسحاق: «وكان عبد المطلب من سادات قريش ، محافظا على العهود، متخلقا بمكارم الأخلاق، يحب المساكين، ويقوم في خدمة الحجيج، ويطعم في الأزمات، ويقمع الظالمين، وكان يطعم حتى الوحوش والطير في رؤوس الجبال». وافتخر –صلى الله عليه وسلم- بانتمائه إلى عبد مناف كما يروى في كتب السير؛ ومن ذلك ما أخرجه أبو علي القالي في أماليه قال : حدثنا أبو بكر بن الأنباري -رحمه الله - قال حدثني أبي عن أحمد بن عبيد عن الزيادي عن المطلب بن المطلب بن أبي وداعة عن جده قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر -رضي الله تعالى عنه- عند باب بني شيبة فمر رجل وهو يقول: يا أيها الرجل المحول رحله = ألا نزلت بآل عبد الدار هبلتك أمك لو نزلت برحلهم = منعوك من عدم ومن إقتار doPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="1,red" star="***,green" style="display:none"',4) قال: فالتفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر فقال: أهكذا قال الشاعر؟ قال: لا والذي بعثك بالحق؛ لكنه قال: يا أيها الرجل المحول رحله = ألا نزلت بآل عبد مناف هبلتك أمك لو نزلت برحلهم = منعوك من عدم ومن إقراف doPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="1,red" star="***,green" style="display:none"',5) إلى آخر الأبيات والأبيات لمطرود بن كعب الخزاعي. وافتخر الرسول –صلى الله عليه وسلم- بموروثه المعنوي متمثلا بانتمائه إلى قريش. وافتخر –صلى الله عليه وسلم- بخؤولته ممثلة في سعد بن أبي وقاص وقال : «هذا خالي فليرني امرؤ خاله». وفي حروب الردة حين اشتد الأمر بالمسلمين وكانت يومئذ سجالا مرة على المسلمين ومرة على الكافرين لجأ خالد بن الوليد –رضي الله عنه- إلى الانتماء القبلي؛ إذ قال :«أيها الناس امتازوا لنعلم بلاء كل حي، ولنعلم من أين نؤتى»، فامتاز أهل القرى والبوادي، وامتازت القبائل من أهل البادية وأهل الحاضرة؛ فوقف بنو كل أب على رايتهم. ومما ينسب إلى علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- أنه قال لما أسلمت قبيلة همدان على يده: فلو كنت بوابا على باب جنة = لقلت لهمدان ادخلوا بسلامdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',6) وفرق بين الاعتزاز بالانتماء إلى القبيلة وبين غمط الناس والتكبر عليهم؛ إذ الكبر ليس من شيم أهل الفضل، وما تكبر أحد إلا لنقص يراه في نفسه؛ لكن الشعوبية خلطت بين الأمرين فجعلتهما أمرا واحدا لفقدهم الانتماء، فأرادوا تعييب غيرهم ممن لهم انتماء؛ وليس بين الانتماء إلى القبيلة وبين الكبر تلازم؛ فأبناء القبيلة يعتزون بانتمائهم إليها دون أن ينتقصوا أحدا كما يعتز غيرهم من أبناء القبائل الأخرى دون أن ينتقصوا أحدا، ولهذا يرددون جملا تدل على احترامهم للآخرين كقولهم «دون قصور في القبائل الأخرى»، وإذا حصل من أحد سوء قالوا : «في كل عود دخانه». ويعتز أهل البلدان والمدن بإقليمهم دون انتقاص للبلدان الأخرى كما يعتز الآخرون ببلدانهم وهكذا دواليك، والجميع في هذا الوطن يعتز بالانتماء إلى هذا الوطن الغالي المبارك دون أن يكون في ذلك نقيصة لمواطني الدول الأخرى، فهذا والاعتزاز بالانتماء إلى القبيلة سواء؛ إنما المحظور أن يصاحب هذا الاعتزاز غمط للحقوق، أو احتقار لأحد، وبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. فمما يعزز الانتماء الجماعي للقبيلة ما تملكه من جانب مادي متوراث كالخيل والإبل والمال والدور. وهذا الموروث المادي المتوارث له مكانة رفيعة في النفوس؛ لأنه اجتمع فيه أمران : العزة والارتباط بالآباء والأجداد؛ فحين يرى المرء خيلا أمامه قد ورثها من آبائه فإنها تزيد في انتمائه وتدخل السرور في نفسه؛ لأنها تتضمن ذكريات لآبائه الذين صارت لهم قصص مع هذه الخيل، فتتحول هذه الذكريات إلى دافع معنوي للمرء نفسه ليحتذي حذو آبائه وليحفظ مكارم الأخلاق والعزة اللتين تحلوا بها، وهذا ما اجتمع في الخيل : موروث مادي أدى إلى موروث معنوي. وقد اعتمد الشعراء على هذا الجانب كقول عمرو بن كلثوم التغلبي في وصف الخيل من معلقته: وتحملنا غداة الروع جرد = عرفن لنا نقائذ وافتلينا وردن دوارعا وخرجن شعثا = كأمثال الرصائع قد بلينا ورثناهن عن آباء صدق = ونورثها إذا متنا بنينا doPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="1,red" star="***,green" style="display:none"',7) فبعد وصفه الخيل مادحا لها، نسب صفاتها إلى الموروث المادي «ورثناهن عن آباء صدق» فقد ورث الخيل بصفاتها التي عودها آباؤه عليها، وهذا يتضمن الموروث المادي في الخيل نفسها، والموروث المعنوي في قيمتي الشجاعة والعزة لآبائه؛ فاتحد الموروثان ليرتفعا بذلك عن الموروث المادي الصرف والموروث المعنوي الصرف. ولعلو شأن هذا الاتحاد في الموروث أكد عمرو بن كلثوم التغلبي على حفظه الإرث، وأنه كما ورثه من آباء صدق فسيورثه آبناءه؛ ليتراكم الموروث جيلا بعد جيل حتى يصبح هذا الموروث قيمة اجتماعية ثابتة، ويعضد ذلك قول الراعي النميري: هم فخروا بخيلهم فقلنا = بغير الخيل تغلب أو عدينا لنا آثارهن على معد = وخير فوارس للخير فينا وعلمنا سياستهن إنا = ورثنا آل أعوج عن أبينا doPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="1,red" star="***,green" style="display:none"',8) وآل أعوج خيل لبني هلال من هوازن؛ فالراعي النميري أسند تعليم سياسية الخيل إلى أسلافه الذين ورث عنهم الخيل، وهذا يعني أن معرفته بالخيل معرفة دقيقة؛ لأنها حصيلة أسلاف تعاملوا مع هذه الخيل. ومن الموروث المادي المرتبط بالخيل : السلاح وما يتبعه، وقيمة السلاح فيمن يستخدمه وليس في جنسه، ومما يروى أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- بعث إلى عمرو بن معد يكرب الكندي أن يبعث إليه بسيفه المعروف بالصمصامة، فبعث به إليه، فلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه، فكتب إليه في ذلك؛ فرد عليه: إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف، ولم أبعث إليه بالساعد الذي يضرب به! وللسلاح المتوراث قيمة أعلى؛ لأنه قد جرب ولأنه يحمل قيمة معنوية لمن حمله من الآباء من قبل، ولهذا قال النابغة الذبياني في مدح عمرو بن الحارث ابن أبي شمر الغساني : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم = بهن فلول من قراع الكتائب تورثن من أزمان يوم حليمة = إلى اليوم قد جربن كل التجارب doPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="1,red" star="***,green" style="display:none"',9) فاستند النابغة الذبياني في مدحه على الموروث المادي «السيوف» المسنتد على الموروث المعنوي «انتصار الأجداد» فزاد من قيمة المدح، ولعل الممدوح بلغ نشوته حين سمع البيت الثاني المتعلق بانتصار أجداده. وقريب من هذا قول جرير بن عطية التميمي: وأورثنا آباؤنا مشرفية = تميت بأيدينا فروخ الجماجمdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',10) فإنه من المعلوم أن المشرفية تميت؛ ولم يقصد جرير إعلام الآخرين بأن لديه مشرفية هذه صفتها؛ إذ الناس لديهم سيوف كسيوفه؛ لكن جريرا اتكأ على الموروث ليبين أفضيلة هذه السيوف التالدة عن السيوف الطارفة. ومن الموروث المادي : المال؛ وهو أقل الموروثات المادية ذكرا؛ ويرجع ذلك إلى أن المال متنقل، ولهذا لا يمكن أن ترتبط به أحداث؛ إنما ترتبط الأحداث بما أنفق المال فيه، كما يروى أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال لبعض ولد هرم ابن سنان المري: أنشدني بعض مدح زهير أباك، فأنشده. فقال عمر: إن كان ليحسن فيكم القول. قال: ونحن والله إن كنا لنحسن له العطاء. فقال: قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم. فمن ذكر المال قول امرئ القيس بن حجر الكندي: وكنا أناسا قبل غزوة قرمل = ورثنا الغنى والمجد أكبر أكبراdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',11) وقرمل : ملك من ملوك حمير، فامرؤ القيس ملك ابن ملك، وارتباط الغنى بالملوك نتيجة بدهية، فلهذا عمد امرؤ القيس إلى الموروث ليعطي الغنى قوة معنوية؛ فبين أن غناه ليس طارئا بل هو متوارث كابرا عن كابر. هذا ما يتعلق بالموروث المادي. وأما على المستوى المعنوي فإن الموروث أبقى وأعمق تأثيرا؛ لأن المادة يندر أن تبقى وكثيرا ما يصيبها العطب عكس الموروث المعنوي الذي تتناقله الأجيال؛ إضافة إلى أن الموروث المادي يمكن أن ينحصر في نسل معين من القبيلة ولا يمتلكه غير أهله؛ لكن الموروث المعنوي يمكن أن يتحلى به أي فرد من أفراد القبيلة؛ كالشجاعة مثلا؛ إذ يحق لأي فرد اتصف بها أن يكتسبها بينما لا يحق له اكتساب الموروث المادي؛ وإن اكتسبه بطريق مشروعة أو غير مشروعة فلا يفتخر به إنما يفتخر بحيازته. فمن الموروث المعنوي : العزة التي تأبى الضيم، وهذه الخصلة يلقنها الآباء الأبناء مدعمين هذا التلقين بحوادث لأسلافهم تثبت عزتهم ومنعتهم، ثم يضيف الأبناء رصيدا إلى هذه الحوادث ويلقنونها أبناءهم حتى تجتمع حوادث عدة تشكل موروثا كبيرا للقبيلة تتناقلها أجيالهم وأجيال غيرهم من القبائل الأخرى؛ فمن رصد للعزة والإباء قول عمرو بن كلثوم التغلبي من معلقته : فهل حدثت في جشم بن بكر =بنقص في خطوب الأولينا ورثنا مجد علقمة بن سيف = أباح لنا حصون المجد دينا ورثت مهلهلا والخير منه = زهيرا نعم ذخر الذاخرينا وعتابا وكلثوما جميعا = بهم نلنا تراث الأكرمينا وذا البرة الذي حدثت عنه = به نحمى ونحمي المحجرينا ومنا قبله الساعي كليب = فأي المجد إلا قد ولينا doPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="1,red" star="***,green" style="display:none"',12) يعني جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل، وعلقمة ابن سيف بن شراحيل بن معشر بن مالك بن جشم بن بكر له وقعة مشهورة يوم سفح متالع، ومهلهل بن ربيعة التغلبي خبره منتشر على كل لسان، وزهير بن جشم ابن بكر والد جد كليب ومهلهل وجد جد الشاعر، وعتاب جد والد الشاعر قاتل شراحيل بن مرة بن همام، وكلثوم والده، وذو البرة : كعب بن زهير بن جشم ابن بكر، وكليب بن ربيعة أخو مهلهل وهما خالا الشاعر؛ فقد سرد عمرو بن كلثوم أسلافه الذين لهم حوادث تدل على العزة والمنعة للدلالة على تأصلهما فيه وفي قومه، ولهذا لم يشر إلى جده «مالك»؛ لأنه ليس له وقعة مشهورة يمكن أن تكون موروثا. ومن الموروث المعنوي المرتبط بالعزة : الشجاعة؛ فشجاعة المرء تنبع من نفسه فإذا أضيف إليها شجاعة أفراد قبيلته صارت عمادا قويا له، وربما غيرت من فيه جبن حفاظا على هذا الموروث، ويمكن إرجاع جزء من شجاعة الفرسان إلى موروثهم؛ إذ يربون من صغرهم على الشجاعة وأن جدهم كان شجاعا فتنمو في نفوسهم الشجاعة، وهذا ما عبر عنه أبو دلامة مولى بني أسد حين طلب منه روح ابن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي الخروج معه لقتال الخوارج، فقال : إني أعوذ بروح أن يقدمني = إلى البراز فتخزى بي بنو أسد إن البراز إلى الأقران أعلمه = مما يفرق بين الروح والجسد قد حالفتك المنايا إذ صمدت لها = وأصبحت لجميع الخلق بالرصد إن المهلب حب الموت أورثكم = وما ورثت اختيار الموت عن أحد لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها = لكنها خلقت فردا فلم أجد doPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="1,red" star="***,green" style="display:none"',13) فالمهلب بن أبي صفرة الأزدي قائد عرف بالشجاعة وربى أبناءه على ذلك فورثها الأبناء الأحفاد، ولهذا عبر أبو دلامة عن شجاعة روح بأنه إرث من المهلب؛ لتسلسل الشجاعة فيهم كتسلسل نسبهم، وهذا ما أشار إليه كعب بن مالك الخزرجي الأنصاري: وعلمنا الضرب آباؤنا = وسوف نعلم أيضا بنيناdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',14) فذكر أن الضرب بالسيف علم متوراث إشارة إلى شجاعة آبائه، وبعض النصوص الشعرية تكتفي بذكر الموروث للدلالة على الشجاعة : كقول حريث المازني: بنو الحرب لم تقعد بهم أمهاتهم = وآباؤهم آباء صدق فأنجبواdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',15) فلم يشر إلى شجاعتهم؛ لأنها معلومة من خلال جهتي النسب : جهة الأمهات وجهة الأباء. ومن الموروث المعنوي : مكارم الأخلاق، وهي أجل الموروثات المعنوية؛ لأنها تصل بالإنسان إلى مراتب عليا، ولهذا قال الرسول –صلى الله عليه وسلم- :«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وأكد –صلى الله عليه وسلم- على قيمة الموروث في هذا الجانب حين قال : «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا». وهذا الموروث من أعظم وسائل الضبط الاجتماعي، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم في قصة مريم قال تعالى {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا (27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا } ، فإن قومها استندوا إلى موروث القيم التي تنتمي إليها مريم ممثلة في «أخت هارون» وإلى مكانة والدها ومكانة أمها، ولهذا تعجبوا من رؤية طفل معها وليست ذات زواج، ولو لم يكن لمريم موروث كريم لما تعجبوا؛ لأن الموروث قد يكون سيئا فلا يستغرب ممن صدرت من إساءة إذا كان موروثه سيئا كما قال القطامي: أبي عنه ورثت سوام مجد = وكل أب سيورث ما يسومdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',16) واتكأ الشعراء على هذا الجانب مبينين أن سبب ترك المساوئ يرجع إلى كرم الآباء، كما في قول قيس بن الخطيم: أبى الذم آباء نمتني جدودهم = ومجدي لمجد الصالحين معينdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',17) وقول الحطيئة : كرام أبى الذم آباؤهم = فلا يجعلون للوم سبيلاdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',18) وقول خداش العامري: أبي فارس الضحياء عمرو بن عامر = أبى الذم واختار الوفاء على الغدرdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',19) ففي هذه النصوص نفي الذم، وسبب النفي يرجع إلى كرامة الآباء؛ وذلك أن كرم الآباء يردع الأحفاد عن الوقوع في الذم، ويحفزهم على التحلي بما تحلى به آباؤهم، حتى إن المرء تمر عليه أصعب الظروف فيمتنع عن الوقوع في غير ما عرف به موروثه حفاظا عليه كمن اشتهر أجداده بالكرم فإنه يبذل ما لديه كله من أجل الحفاظ على هذا، ويمتنع في أحرج اللحظات عن العيب وإن كان متنفسا له؛ لأن العيب لا يلتصق به فقط، بل يجلبه على غيره ممن يشتركون معه في الانتماء. وكثيرا ما يستند على هذا الموروث لتأصيل الصفات الكريمة في الممدوح، كما قال زهير بن أبي سلمى المزني يمدح هرم بن سنان المري: فما يك من خير أتوه فإنما = توارثه آباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطي إلا وشيجه = وتغرس إلا في منابتها النخل doPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="1,red" star="***,green" style="display:none"',20) الخطي : نوع من القصب، والوشيج : العروق. فجعل زهير الخير في الممدوح من خصائصه كأنه من جيناته؛ إذ الخير وراثة من أجداده، وهو نتيجة حتمية كما أن عروق القصب ينبت منها القصب كاملا، وكما أن النخل له مغارسه الطيبة فكذا خير الممدوح من مغارس طيبة. ومن مكارم الأخلاق التي تميز بها العرب: الكرم، وحرص الشعراء على إبراز هذه الخصلة الحميدة ضمن الموروث المعنوي كقول الراعي النميري: ومن يفخر بمكرمة فإنا = سبقناها لأيدي العالمينا عصا كرم ورثناها أبانا = ونورثها إذا متنا بنينا doPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="1,red" star="***,green" style="display:none"',21) وقد جسد لبيد بن ربيعة العامري –رضي الله عنه- أنواع الكرم في معلقته؛ فبين أنه ينحر الإبل حتى كأن الضيف والجار قد حلوا موقع تبالة وقد أخصب، وترى العجائز قد اجتمعن لأخذن نصيبهن من اللحم، وإذا اشتد البرد وقل الطعام رأيت الأيتام قد اجتمعوا على الطعام كأن ما بينهم وبين القدر شوارع من أثر الطعام، كل هذا سنة سنها آباؤهم وهم سائرون على سنتهم، يقول لبيد : وجزور أيسار دعوت لحتفها = بمغالق متشابه أجسامها أدعو بهن لعاقر أو مطفل = بذلت لجيران الجميع لحامها فالضيف والجار الجنيب كأنما = هبطا تبالة مخصبا أهضامها تأوي إلى الأطناب كل رذية = مثل البلية قالص أهدامها ويكللون إذا الرياح تناوحت = خلجا تمد شوارعا أيتامها إنا إذا التقت المجامع لم يزل = منا لزاز عظيمة جشامها ومقسم يعطي العشيرة حقها = ومغذمر لحقوقها هضامها فضلا وذو كرم يعين على الندى = سمح كسوب رغائب غنامها من معشر سنت لهم آبائهم = ولكل قوم سنة وإمامها doPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="1,red" star="***,green" style="display:none"',22) فبعد أن ذكر لبيد الكرم وفصل فيه، أضاف إلى الجانب المادي جانبا معنويا؛ وهو أن الكرم شيء ثابت في أصولهم؛ لأنها سنة آباء وليست طارئة عليهم، فالموروث متتابع من الآباء إلى الأبناء، يقول أرطاة بن سهية الغطفاني : نبني لآخرنا مجدا نشيده = إنا كذاك ورثنا المجد أولاناdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',23) ويلحظ أن النصوص الشعرية لا تبتدئ بالموروث المادي أو المعنوي، بل تقرر القيمة الفضلى كالكرم والشجاعة وتثبتها، ثم تدعمها بالموروث إشارة إلى أن الأساس هو عمل الأبناء وأن الموروث رافد للأبناء. إن هذا الموروث بشقيه المادي والمعنوي من أكبر الدعامات لترسيخ حب الوطن -خلافا لما تروج له الشعوبية من أنه خطر على الوحدة الوطنية- فكلما ازدادت حصيلة الفرد من موروثه زاد لديه الانتماء إلى هذا الوطن؛ لأن موروثه يتضمن الأماكن التي سكن فيها آباؤه فيتعزز لديه التعلق بها، ويتضمن موروثه قصصا وحوادث وآثارا مرتبطة بالمكان وبمن يسكنه، فلهذا يحرص على المحافظة عليه، ويحرص على أمن وطنه ورفعته؛ لأنه الأرض التي مشى عليها أجداده وأخواله، وفي كل بقعة منه شاهد يحكي تأريخا، كل هذا يغرس الوطنية في النفس، وأما الذي ليس لديه ما يربطه بهذه الأرض فما الموجب لحبه لها؟! لهذا كان من حق الأجداد حفظ موروثهم المادي والمعنوي ليسير الأبناء مسيرة آبائهم؛ ومن الحفاظ على الموروث منتديات القبائل المنضبطة في الشبكة العنكبوتية خلافا للشعوبية الذين تقض مضاجعهم مثل هذه المنتديات لا لشيء إلا لفقدهم الانتماء. ومن الحفاظ على موروث القبيلة هذا الملتقى الكريم الذي يربط الجيل الحاضر بماضيه، وليس في هذا الملتقى ولا غيره من ملتقيات الإبل إضرار بأحد أو مساس بالأمن الوطني أو غمط لحقوق؛ وإنما هاج من هاج؛ لحسد في نفوسهم ولفقدهم مثل هذا الموروث، وحاولوا تأليب السلطة على القبيلة في محاولة لطمس أي أثر للعرب في جزيرة العرب. وأقول للقبائل العربية : حافظوا على حفظ موروثكم، وكونوا كما قال القتال الكلابي : ما ضاع مجد أب ورثت تراثه = إذ كان مجد أب لآخر ضائعاdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',24) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. = محاضرة ألقيت في ملتقى مزايين قبيلة عتيبة مساء الخميس 13/10/1428هـ = [تنبيه : لم تشر جريدة الرياض في عددها الصادر اليوم السبت 15 شوال 1428هـ - 27 أكتوبر 2007م - العدد 14369 في موضوع فعاليات ملتقى (عتيبة) لمزايين الإبل تتواصل) إلى هذه المحاضرة؛ إذا أشارت إلى المحاضرة التي قبلها وإلى ما بعدها]

التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع