قصة مثل

وقفات مع صدى الإبداع

الأدبقرأت ما كتبه د.سلطان بن سعد القحطاني في المجلة الثقافية بعنوان (صدى الإبداع) في حلقات متفرقة ، ولي وقفات مع الكاتب:



في العدد ذي الرقم (22) المؤرخ في يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر جمادى الأولى لعام 1424 هـ تحت عنوان (الفكر والمرجعية)



- ذكر الكاتب أن علماء النحو وضعوا قواعده على مذهب الرياضيين وعلماء المنطق من اليونانيين. وهذا غير صحيح؛ وإليك بيان ذلك :



على خلاف في أول من وضع قواعد النحو هل هو علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- أو أبو الأسود الدؤلي(1) فإنّ مبدأ تقعيد النحو مبدأ عربي لم يتأثر بمذهب الرياضيين، ولا منطق اليونان، ثم تتابع على التقعيد علماء لم يعرفوا منطق اليونان كعيسى بن عمر، ثم الخليل بن أحمد، ثم سيبويه.



والقول بأن النحويين قعّدوا النحو متأثّرين بمنطق اليونان قول دخيل؛ لأنّ تقعيد النحو سابق للتأثر بالمنطق اليونانيّ؛ حيث لم يبدأ التأثر بالمنطق إلا في عهد المأمون حين ترجمت المؤلفات اليونانيّة (2) . ولا يمكن للترجمة أن تُؤثّر خلال مدة زمنية قصيرة، بل تحتاج إلى مدة كي تقر في البيئة الجديدة، وهذا يعني أن بين تقعيد النحو وبين التأثر بالمنطق مدة زمنية طويلة تقارب القرن. ولعله اختلط على الكاتب تأثر بعض النحويين بالمنطق كالرُّماني الذي قال فيه أبو علي الفارسي : «إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء. وإن كان ما نقوله نحن فليس مع الرماني منه شيء»(3) . ودونك كتاب سيبويه فلست ترى أثرًا للمنطق اليونانيّ ولا لمذهب الرياضيين، بل هو مذهب عربي يعتمد على الاستنباط إلا إذا كان الكاتب يرى أنّ أولئك العلماء لم يعرفوا الاستنباط إلا عن طريق اليونان!



ثم إنّ المنطق عقيم في تقعيد النحو ؛ وذلك أنّ الأصل في اللغة السماع ثم يأتي القياس، فهل نعد قياس العرب منطقًا؟



إنّ التفكير السليم لا يعني التأثر بالمنطق، ومن قال ضد هذا لزم منه أنّ الأمم كلها لم تفكر ولم تعرف طرق التفكير إلا عن طريق اليونان، وهذا قول مردود.



وأكبر دليل على فشل المنطق في فهم القواعد النحوية العربية المناظرة الكبرى بين متى بن يونس المتشبع بمنطق اليونان وبين أبي سعيد السيرافي ؛ وهي مناظرة مشهورة ممتعة ذكرها التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة» (4) وقارئها يتضح له إفلاس متى بن يونس، وعدم قدرته على فهم كلام العرب؛ لأنه اعتمد على المنطق ولم يعتمد على الأصل الصحيح لتلقي اللغة؛ وهو السماع ثم، الاستنباط؛ ومن ذلك أن أبا سعيد سأله : «إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟ قال نعم. قال: أخطأت، قل في هذا لموضع بلى. قال متى: بلى، أنا أقلدك في مثل هذا». فلم يفهم مَتَّى أن نفي النفي إثبات، وهذا حد عقلي بحت.



ثانيًا : في العدد ذي الرقم (23) المؤرخ في يوم الاثنين السادس من جمادى الآخرة لعام 1424 هـ تحت عنوان (الخلاف الفكري بين تيارين)



- ذكر الكاتب أن الجاحظ وهو من المعتزلة لم يشعر قرّاؤه بفكره الاعتزالي من خلال مؤلفاته المتعددة والسبب أن الجاحظ أخذ من كل الموارد الفكرية.



هذه مسألة فيها نظر؛ لأنّ باب الأدب واسع لا تدخل فيه العقائد –غالبًا-؛ ولهذا يندر أنْ يعرض عارض يستوجب ذكر معتقد المؤلف، ولهذا لا ترى أثرًا كبيرًا للاعتزال عند الجاحظ في «البيان والتَّبَيُّن» لأنّه كتاب في الأدب؛ فإذا انتقلت إلى رسائله الفكرية بان لك اعتزاله. وقد طُبِعَت دراسة عن الأثر الاعتزالي في مؤلفات الجاحظ بعنوان «الجانب الاعتزالي في مؤلفات الجاحظ».



فعدم شعور قرّاء الجاحظ بفكره الاعتزالي ليس سببه كما ذكره الكاتب مِن أنّ الجاحظ أخذ من كل الموارد الفكرية، بل السبب يرجع إلى أمرين :



الأمر الأول : أنّ كتب الجاحظ غالبها أدبي موسوعي، والأدب لا يستوجب –غالبًا- ذكر العقائد.



الأمر الثاني : أنّ فكر الاعتزال فكر فلسفيّ قد يخفى على كثير من القرّاء فيقرؤون الفكرة الاعتزالية دون أن يشعروا بها.

ودونك ابن قتيبة عصري الجاحظ؛ حيث لا يظهر أثر كبير للمذهب في كتابه «عيون الأخبار» لأنه كتاب أدبي، ويظهر أثر المذهب جليا في «تأويل مشكل القرآن»، و «الرد على المشبهة».



- قال الكاتب : «... وإن كان الجاحظ قد عاب على الخليل تأليفه لكتب الموسيقى، وأنه كما يزعم لم ينجح في هذا المؤلف نجاحه في بقية مؤلفاته العروضية والنحوية، فإن الجاحظ نفسه قد كتب في كل العلوم والمعارف ولم يعبه أحد، حتى الخليل وهجوم الخليل على المعتزلة هجوم فكري وليس علميا، والخلاف هنا خلاف فكري وليس علميا ...»

هنا ملحوظتان :



الملحوظة الأولى : زلل تأريخي؛ فالخليل لا يمكنه تأريخيًّا أن يعيب الجاحظ؛ لأنّ الخليل توفي قبل أن يولد الجاحظ؛ فالخليل توفي سنة 175 هـ وقيل 170 هـ وقيل 160 هـ والجاحظ توفي سنة 255 هـ ومولده في حدود سنة 150 (5) .



الملحوظة الثانية : هجوم الخليل على المعتزلة غير وارد؛ لأنّ الفكر الاعتزاليّ لم ينضج في عهد الخليل على أنه فكر فلسفيّ، بل كان في طور النمو (6) . ثم إنّ الخليل لم يُعرف عنه هجوم على المعتزلة. وقد أعدتُ قراءة ترجمة الخليل في المؤلفات المتعددة، وقرأت الدراسات عن سيرته، فلم أقف على ذكر لهجومه على المعتزلة.



ثالثًا : في العدد ذي الرقم (24) المؤرخ في يوم الاثنين الثالث عشر من شهر جمادى الآخرة لعام 1424 هـ في الصفحة السادسة بعنوان (صدى الإبداع : أثر ابن المقفع في الفكر الغربي الحديث):



- ذكر الكاتب أن ابن طفيل استوحى قصته «حي بن يقظان» من أساطير الهنود. وهذا فيه نظر؛ لأنه أولاً يحتاج إلى إثبات علمي، وفي المقدمة التي كتبها د.فاروق سعد للكتاب ذكر أصول الأسطورة لدى الأمم؛ فذكر أصولها عند اليونان وغيرهم، ولم يرد ذكر للهند(7). والأمر الآخر أن قصة «حي بن يقظان» فلسفية لها مغزى محدد، وقد اغتر بعض الباحثين بها فظنوها دليل إيمان، وليس كذلك على الإطلاق؛ والمسألة باختصار أن بعض الفلاسفة يرون أن النبوة مكتسبة، وأن الأنبياء أناس منظمون لأوضاع أممهم وأنهم أتوا بهذه الشرائع لكي تنضبط أمور الحياة. ولهذا فهم يرونهم عظماء لا أنبياء يوحى إليهم. ونتيجة لهذا بنى محمد ابن عبد الملك بن طفيل –على ما يظهر لي- قصته، وأن حي بن يقظان عرف الله دون الحاجة إلى الأنبياء. فظن بعض الباحثين أن المعرفة التي يقصدها ابن طفيل هي المعرفة الفطرية، وليس كذلك، فهذه معلوم؛ فمعرفة الله الفطرية مبثوثة في النفوس، ومعرفة الشرائع لا بد لها من وحي عن طريق الأنبياء (8).



فإذا علم هذا فإن القول بأنه تأثر بالأساطير الهندية قول فيه نظر ما لم يدعمه دليل يثبت أن هذه الفكرة متداولة في الفكر الهندي القديم.



- ذكر الكاتب أن كتاب «ألف ليلة وليلة» يحمل فكرًا فلسفيًّا، ومَن تصفح الكتاب تيقن أنه لا يحمل الفكر الفلسفي فهي مجموعة من القصص تنسلك فيها الحكمة والمجون الفاحش!



- ذكر الكاتب أن «ألف ليلة وليلة» من ترجمة ابن المقفع، فقال : «وقد سبب فكر ابن المقفع (مترجم الكتاب) صدمة للفكر التقليدي ... لكن فكره بقي إلى الأبد ، بقي كتابه الأدب الكبير والصغير، ورسالة الصحابة، وكليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة ...».



وهذا كلام غير صحيح؛ لأن «ألف ليلة ليلة» ليست لمؤلف واحد، ولم يترجمها ابن المقفع، والدليل ورود شخصيات كثيرة بعد وفاة ابن المقفع مثل هارون الرشيد (9) . فكيف يكون ابن المقفع مترجمًا لكتاب ذُكرت فيه شخصيات بعد وفاته؟!



إن «ألف ليلة وليلة» تندرج ضمن القصص الشعبية التي تعاقب على تأليفها عدة رواة مثل سيرة عنترة بن شداد، والأميرة ذات الهمة، وسيف بن ذي يزن وحمزة البهلون وغيرها، فهذه السير مجهولة المصنف.



- ذكر الكاتب أن سبب قتل المنصور لابن المقفع هو أن ابن المقفع «حاور العقل بالعقل والمنطق بالمنطق»، وليس هذا هو السبب بل السبب سياسي بحت يرجع إلى أن ابن المقفع كتب كتاب الأمان للنفس الزكية وتعرض فيه إلى مسائل حساسة كالبيعة، والخلافة وأن المنصور ينخلع منها إذا غدر (10) ، وصدقت فيه مقولة الخليل حينما قال : «علمه أكبر من عقله»(11).



===

الحواشي



(1) ينظر في ذلك طبقات اللغويين للزبيدي (11).



(2) ينظر في ذلك وفيات الأعيان (2/267) في ترجمة حنين بن إسحاق.



(3) ينظر معجم الأدباء (4/1862).



(4) الإمتاع والمؤانسة (1/108-129)، وعنه ياقوات في معجم الأدباء (2/894-908) في ترجمة أبي سعيد السيرافي



(5) ينظر في ترجمة الخليل : وفيات الأعيان (2/248)، وفي ترجمة الجاحظ وفيات الأعيان (3/474)، ومعجم الأدباء (5/2101).



(6) ينظر «المعتزلة وأصولهم الخمسة» لعواد بن عبد الله المعتق.



(7) مقدمة كتاب «حي بن يقظان». وهذا لا يعني انعدامها لدى الهند؛ لكن تحتاج إلى إثبات.



(8) الفلاسفة الإسلاميون لهم تصور خاص عن النبوة، وبعضهم ينكر النبوة أصلاً؛ وابن طفيل من الفلاسفة الإسلاميين وقد يكون على نمطهم وقد لا يكون، والمسألة تحتاج إلى بحث دقيق للخروج بحكم نهائي، والذي ذكرته هو الذي ظهر لي من خلال القراءة العامة، ولا أجزم به. للاستزادة عن موقف الفلاسفة الإسلاميين من النبوة ينظر : تهافت الفلاسفة لعلاء الدين الطوسي (313-316)، والكتاب المنسوب إلى أبي حاتم الرازي «أعلام النبوة، الرد على الملحد أبي بكر الرازي».



(9) تنظر الليلة ذات الرقم (295)، وذكر الموصلي مع المأمون في الليلة ذات الرقم (288)، وذكر الحاكم بأمر الله في الليلة ذات الرقم (385).



(10) ينظر وفيات الأعيان (2/152).



(11) ينظر : وفيات الأعيان (2/151).



روابط الأعداد



1) www.al-jazirah.com.sa/culture/28072003/fadaat9.htm



2) www.al-jazirah.com.sa/culture/04082003/fadaat6.htm





3) www.al-jazirah.com.sa/culture/11082003/fadaat11.htm





===



تنبيه :



أرسلت الرد إلى (المجلة الثقافية) يوم الاثنين الموافق 27/ذو القعدة/1424هـ ولم ينشر إلى اليوم



===

عبد الرحمن بن ناصر السعيد

عدد التعليقات : 2 | عدد القراء : 5845 | تأريخ النشر : الأحد 6 ربيع الأول 1425هـ الموافق 25 أبريل 2004م

طباعة المقال

إرسال المقالة
وقفات مع صدى الإبداع قرأت ما كتبه د.سلطان بن سعد القحطاني في المجلة الثقافية بعنوان (صدى الإبداع) في حلقات متفرقة ، ولي وقفات مع الكاتب: في العدد ذي الرقم (22) المؤرخ في يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر جمادى الأولى لعام 1424 هـ تحت عنوان (الفكر والمرجعية) - ذكر الكاتب أن علماء النحو وضعوا قواعده على مذهب الرياضيين وعلماء المنطق من اليونانيين. وهذا غير صحيح؛ وإليك بيان ذلك : على خلاف في أول من وضع قواعد النحو هل هو علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- أو أبو الأسود الدؤلي(1) فإن مبدأ تقعيد النحو مبدأ عربي لم يتأثر بمذهب الرياضيين، ولا منطق اليونان، ثم تتابع على التقعيد علماء لم يعرفوا منطق اليونان كعيسى بن عمر، ثم الخليل بن أحمد، ثم سيبويه. والقول بأن النحويين قعدوا النحو متأثرين بمنطق اليونان قول دخيل؛ لأن تقعيد النحو سابق للتأثر بالمنطق اليوناني؛ حيث لم يبدأ التأثر بالمنطق إلا في عهد المأمون حين ترجمت المؤلفات اليونانية (2) . ولا يمكن للترجمة أن تؤثر خلال مدة زمنية قصيرة، بل تحتاج إلى مدة كي تقر في البيئة الجديدة، وهذا يعني أن بين تقعيد النحو وبين التأثر بالمنطق مدة زمنية طويلة تقارب القرن. ولعله اختلط على الكاتب تأثر بعض النحويين بالمنطق كالرماني الذي قال فيه أبو علي الفارسي : «إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء. وإن كان ما نقوله نحن فليس مع الرماني منه شيء»(3) . ودونك كتاب سيبويه فلست ترى أثرا للمنطق اليوناني ولا لمذهب الرياضيين، بل هو مذهب عربي يعتمد على الاستنباط إلا إذا كان الكاتب يرى أن أولئك العلماء لم يعرفوا الاستنباط إلا عن طريق اليونان! ثم إن المنطق عقيم في تقعيد النحو ؛ وذلك أن الأصل في اللغة السماع ثم يأتي القياس، فهل نعد قياس العرب منطقا؟ إن التفكير السليم لا يعني التأثر بالمنطق، ومن قال ضد هذا لزم منه أن الأمم كلها لم تفكر ولم تعرف طرق التفكير إلا عن طريق اليونان، وهذا قول مردود. وأكبر دليل على فشل المنطق في فهم القواعد النحوية العربية المناظرة الكبرى بين متى بن يونس المتشبع بمنطق اليونان وبين أبي سعيد السيرافي ؛ وهي مناظرة مشهورة ممتعة ذكرها التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة» (4) وقارئها يتضح له إفلاس متى بن يونس، وعدم قدرته على فهم كلام العرب؛ لأنه اعتمد على المنطق ولم يعتمد على الأصل الصحيح لتلقي اللغة؛ وهو السماع ثم، الاستنباط؛ ومن ذلك أن أبا سعيد سأله : «إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟ قال نعم. قال: أخطأت، قل في هذا لموضع بلى. قال متى: بلى، أنا أقلدك في مثل هذا». فلم يفهم متى أن نفي النفي إثبات، وهذا حد عقلي بحت. ثانيا : في العدد ذي الرقم (23) المؤرخ في يوم الاثنين السادس من جمادى الآخرة لعام 1424 هـ تحت عنوان (الخلاف الفكري بين تيارين) - ذكر الكاتب أن الجاحظ وهو من المعتزلة لم يشعر قراؤه بفكره الاعتزالي من خلال مؤلفاته المتعددة والسبب أن الجاحظ أخذ من كل الموارد الفكرية. هذه مسألة فيها نظر؛ لأن باب الأدب واسع لا تدخل فيه العقائد –غالبا-؛ ولهذا يندر أن يعرض عارض يستوجب ذكر معتقد المؤلف، ولهذا لا ترى أثرا كبيرا للاعتزال عند الجاحظ في «البيان والتبين» لأنه كتاب في الأدب؛ فإذا انتقلت إلى رسائله الفكرية بان لك اعتزاله. وقد طبعت دراسة عن الأثر الاعتزالي في مؤلفات الجاحظ بعنوان «الجانب الاعتزالي في مؤلفات الجاحظ». فعدم شعور قراء الجاحظ بفكره الاعتزالي ليس سببه كما ذكره الكاتب من أن الجاحظ أخذ من كل الموارد الفكرية، بل السبب يرجع إلى أمرين : الأمر الأول : أن كتب الجاحظ غالبها أدبي موسوعي، والأدب لا يستوجب –غالبا- ذكر العقائد. الأمر الثاني : أن فكر الاعتزال فكر فلسفي قد يخفى على كثير من القراء فيقرؤون الفكرة الاعتزالية دون أن يشعروا بها. ودونك ابن قتيبة عصري الجاحظ؛ حيث لا يظهر أثر كبير للمذهب في كتابه «عيون الأخبار» لأنه كتاب أدبي، ويظهر أثر المذهب جليا في «تأويل مشكل القرآن»، و «الرد على المشبهة». - قال الكاتب : «... وإن كان الجاحظ قد عاب على الخليل تأليفه لكتب الموسيقى، وأنه كما يزعم لم ينجح في هذا المؤلف نجاحه في بقية مؤلفاته العروضية والنحوية، فإن الجاحظ نفسه قد كتب في كل العلوم والمعارف ولم يعبه أحد، حتى الخليل وهجوم الخليل على المعتزلة هجوم فكري وليس علميا، والخلاف هنا خلاف فكري وليس علميا ...» هنا ملحوظتان : الملحوظة الأولى : زلل تأريخي؛ فالخليل لا يمكنه تأريخيا أن يعيب الجاحظ؛ لأن الخليل توفي قبل أن يولد الجاحظ؛ فالخليل توفي سنة 175 هـ وقيل 170 هـ وقيل 160 هـ والجاحظ توفي سنة 255 هـ ومولده في حدود سنة 150 (5) . الملحوظة الثانية : هجوم الخليل على المعتزلة غير وارد؛ لأن الفكر الاعتزالي لم ينضج في عهد الخليل على أنه فكر فلسفي، بل كان في طور النمو (6) . ثم إن الخليل لم يعرف عنه هجوم على المعتزلة. وقد أعدت قراءة ترجمة الخليل في المؤلفات المتعددة، وقرأت الدراسات عن سيرته، فلم أقف على ذكر لهجومه على المعتزلة. ثالثا : في العدد ذي الرقم (24) المؤرخ في يوم الاثنين الثالث عشر من شهر جمادى الآخرة لعام 1424 هـ في الصفحة السادسة بعنوان (صدى الإبداع : أثر ابن المقفع في الفكر الغربي الحديث): - ذكر الكاتب أن ابن طفيل استوحى قصته «حي بن يقظان» من أساطير الهنود. وهذا فيه نظر؛ لأنه أولا يحتاج إلى إثبات علمي، وفي المقدمة التي كتبها د.فاروق سعد للكتاب ذكر أصول الأسطورة لدى الأمم؛ فذكر أصولها عند اليونان وغيرهم، ولم يرد ذكر للهند(7). والأمر الآخر أن قصة «حي بن يقظان» فلسفية لها مغزى محدد، وقد اغتر بعض الباحثين بها فظنوها دليل إيمان، وليس كذلك على الإطلاق؛ والمسألة باختصار أن بعض الفلاسفة يرون أن النبوة مكتسبة، وأن الأنبياء أناس منظمون لأوضاع أممهم وأنهم أتوا بهذه الشرائع لكي تنضبط أمور الحياة. ولهذا فهم يرونهم عظماء لا أنبياء يوحى إليهم. ونتيجة لهذا بنى محمد ابن عبد الملك بن طفيل –على ما يظهر لي- قصته، وأن حي بن يقظان عرف الله دون الحاجة إلى الأنبياء. فظن بعض الباحثين أن المعرفة التي يقصدها ابن طفيل هي المعرفة الفطرية، وليس كذلك، فهذه معلوم؛ فمعرفة الله الفطرية مبثوثة في النفوس، ومعرفة الشرائع لا بد لها من وحي عن طريق الأنبياء (8). فإذا علم هذا فإن القول بأنه تأثر بالأساطير الهندية قول فيه نظر ما لم يدعمه دليل يثبت أن هذه الفكرة متداولة في الفكر الهندي القديم. - ذكر الكاتب أن كتاب «ألف ليلة وليلة» يحمل فكرا فلسفيا، ومن تصفح الكتاب تيقن أنه لا يحمل الفكر الفلسفي فهي مجموعة من القصص تنسلك فيها الحكمة والمجون الفاحش! - ذكر الكاتب أن «ألف ليلة وليلة» من ترجمة ابن المقفع، فقال : «وقد سبب فكر ابن المقفع (مترجم الكتاب) صدمة للفكر التقليدي ... لكن فكره بقي إلى الأبد ، بقي كتابه الأدب الكبير والصغير، ورسالة الصحابة، وكليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة ...». وهذا كلام غير صحيح؛ لأن «ألف ليلة ليلة» ليست لمؤلف واحد، ولم يترجمها ابن المقفع، والدليل ورود شخصيات كثيرة بعد وفاة ابن المقفع مثل هارون الرشيد (9) . فكيف يكون ابن المقفع مترجما لكتاب ذكرت فيه شخصيات بعد وفاته؟! إن «ألف ليلة وليلة» تندرج ضمن القصص الشعبية التي تعاقب على تأليفها عدة رواة مثل سيرة عنترة بن شداد، والأميرة ذات الهمة، وسيف بن ذي يزن وحمزة البهلون وغيرها، فهذه السير مجهولة المصنف. - ذكر الكاتب أن سبب قتل المنصور لابن المقفع هو أن ابن المقفع «حاور العقل بالعقل والمنطق بالمنطق»، وليس هذا هو السبب بل السبب سياسي بحت يرجع إلى أن ابن المقفع كتب كتاب الأمان للنفس الزكية وتعرض فيه إلى مسائل حساسة كالبيعة، والخلافة وأن المنصور ينخلع منها إذا غدر (10) ، وصدقت فيه مقولة الخليل حينما قال : «علمه أكبر من عقله»(11). === الحواشي (1) ينظر في ذلك طبقات اللغويين للزبيدي (11). (2) ينظر في ذلك وفيات الأعيان (2/267) في ترجمة حنين بن إسحاق. (3) ينظر معجم الأدباء (4/1862). (4) الإمتاع والمؤانسة (1/108-129)، وعنه ياقوات في معجم الأدباء (2/894-908) في ترجمة أبي سعيد السيرافي (5) ينظر في ترجمة الخليل : وفيات الأعيان (2/248)، وفي ترجمة الجاحظ وفيات الأعيان (3/474)، ومعجم الأدباء (5/2101). (6) ينظر «المعتزلة وأصولهم الخمسة» لعواد بن عبد الله المعتق. (7) مقدمة كتاب «حي بن يقظان». وهذا لا يعني انعدامها لدى الهند؛ لكن تحتاج إلى إثبات. (8) الفلاسفة الإسلاميون لهم تصور خاص عن النبوة، وبعضهم ينكر النبوة أصلا؛ وابن طفيل من الفلاسفة الإسلاميين وقد يكون على نمطهم وقد لا يكون، والمسألة تحتاج إلى بحث دقيق للخروج بحكم نهائي، والذي ذكرته هو الذي ظهر لي من خلال القراءة العامة، ولا أجزم به. للاستزادة عن موقف الفلاسفة الإسلاميين من النبوة ينظر : تهافت الفلاسفة لعلاء الدين الطوسي (313-316)، والكتاب المنسوب إلى أبي حاتم الرازي «أعلام النبوة، الرد على الملحد أبي بكر الرازي». (9) تنظر الليلة ذات الرقم (295)، وذكر الموصلي مع المأمون في الليلة ذات الرقم (288)، وذكر الحاكم بأمر الله في الليلة ذات الرقم (385). (10) ينظر وفيات الأعيان (2/152). (11) ينظر : وفيات الأعيان (2/151). روابط الأعداد 1) www.al-jazirah.com.sa/culture/28072003/fadaat9.htm 2) www.al-jazirah.com.sa/culture/04082003/fadaat6.htm 3) www.al-jazirah.com.sa/culture/11082003/fadaat11.htm === تنبيه : أرسلت الرد إلى (المجلة الثقافية) يوم الاثنين الموافق 27/ذو القعدة/1424هـ ولم ينشر إلى اليوم ===
(1) - عنوان التعليق : شكرا

تأريخ النشر: الخميس 24 ذو الحجة 1425هـ الموافق 3 فبراير 2005مسيحية

نص التعليق

طباعة التعليق

إرسال التعليق
(2) - عنوان التعليق : استبدل صاد وحاء الصحافة بسين وخاء

تأريخ النشر: الثلاثاء 26 جمادى الأولى 1428هـ الموافق 12 يونيو 2007مسيحية

نص التعليق
مثلك يصعب أن ينشر له :), وقد أخبرني صاحب احدى الاعمدة في جريدة الجزيرة انه ارسل اربعة ردود على كتاب مشهورين في جريدة الرياض, ولم ينشر منها شيء. ويكفينا ان نعلم ان الامير ممدوح بن عبد العزيز وعلى الرغم من انه ابن عبد العزيز الا ان بعضا من ردوه لا تنشر في صحافتنا, وذلك لتوجهه المخالف لتوجه ارباب صحفنا.
كانت الدكتاتورية الصحفية في السابق تؤلم اما الآن فعزاؤنا انه يمكن نشر مالم تنشره الصحف عبر الشنكبوتية.

طباعة التعليق

إرسال التعليق
إرسال المقالة والتعليقات إلى صديق

التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع