المرأة ومناطحة الرجل

الكاتب : عزيز محمد أبو خلف
عنوان التعليق : يتمكن الإنسان بالتفكير من إنتاج البدائل وفهم المتاح منها، كما يتمكن من الاختيار وإدراك عواقب الأمور. وهذا يجعله مستحقا للثواب والعقاب بشكل عادل؛ لأنه يملك الأدوات والقدرة على التفكير من أجل الاختيار. وليس هذا خاصا بجنس دون آخر؛ فالرجل يفكر، والمرأة تفكر، وقد أودع الله تعالى في كل منهما الأدوات والوسائل التي تمكنه من إنجاز عملية التفكير، من الحواس والدماغ والذاكرة والقدرة على الربط.

غير أن مجرد امتلاك وسائل التفكير لا يعني بالضرورة القدرة على إنتاج الأفكار وبشكل صحيح؛ لأن عملية التفكير وإن كانت تبدو تلقائية وبسيطة وسريعة في الظاهر.. فإنها لا تخلو من التعقيد. وهذا التعقيد نابع من تعدد مراحل عملية التفكير وكثرة العوامل المؤثرة فيها والمتأثرة بها، كما أن للتفكير دوافع تدفعه إلى الهدف، وهناك الموانع التي تصده عن تحقيق ذلك. من هنا كان النظر في الحوافز والموانع أو المعوقات من أهم الأمور التي يجب أن نوليها العناية الكافية عند تعليم أبنائنا وبناتنا مهارات التفكير والإبداع.

ما هو الإبداع؟

الإبداع تفكير يخالف المألوف، ولا ينحصر في المخترعات والابتكارات العظيمة، بل يمكن أن يتعلق بهذا وبغيره من الوسائل والأساليب والأفكار نفسها، كما يتعلق بتغيير الموجود أو إعادة النظر فيه. والإنسان بطبيعة تكوين الشبكة العصبية لديه يركن إلى الأنماط العصبية التي تميل إلى الجمود والاستقطاب، ويصبح أسيرا لها على مر الزمان. فإذا ما رام الإبداع فلا بد له من قفزة نوعية تخرجه من أسر هذا الواقع عن طريق كسر القيود والمسلمات وتغيير وجهة النظر، من أجل ابتكار البدائل ونقاط البدء. وقد تسمى مثل هذه الأساليب "التفكير الجانبي"؛ لأنها تعمل على توجيه نظر الإنسان إلى طرق أخرى واتجاهات مغايرة، وهي على أي حال مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتفكير الإبداعي.

هل المرأة قادرة على الإبداع؟

قد يبدو هذا السؤال سخيفا إذا كنا نعتبر المرأة إنسانا مثل الرجل، فلا بد أنها تفكر مثله؛ لأن التفكير صفة إنسانية لا تختص بالرجال دون النساء. غير أن الواقع ينطق بعكس هذا، فالمرأة أبعد ما يكون عن الإبداع في مجتمعاتنا، وهذا ليس لنقص في قدراتها ولكن لأن الواقع نفسه هو الذي يفرض عليها ذلك. وهذا الواقع لا نستبعد أن تكون المرأة نفسها ساهمت فيه، على الأقل بمطاوعتها وانقيادها لما يراد لها. ومن أجل الإنصاف لا بد من التحقق من أن المرأة فعلا قادرة على الإبداع ذاتيا، ثم بعد ذلك نتحقق من الوقائع المفروضة عليها.

لا تدل الأبحاث العلمية على وجود فروق حقيقية في التفكير عند المرأة والرجل ولا في طرق اكتساب المعرفة. فلم تُظهر الأبحاث المتعلقة بالدماغ فروقا جوهرية إلا في حدود ضيقة لا تتجاوز ربع انحراف معياري واحد. حيث أكدت كثير من الأبحاث تماثُلَ نصفَي الدماغ عند النساء بشكل أكبر منه عند الرجال، لكن لم يتأكد أي شيء يدل على اختلاف في التفكير بناء على ذلك، اللهم إلا فيما يعرف بالذكاء العاطفي. هذا بالإضافة إلى عدم وجود اختلاف في القدرات العقلية وقدرات الحواس وتركيبة الخلايا العصبية في الدماغ. معنى هذا أن المرأة والرجل سواء بالفطرة من حيث عملية التفكير، ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا في الفروق الفردية، أي في مستوى الذكاء ودرجته وليس في نوعيته.

فإذا كانت قدرات المرأة لا عيب فيها، فلا يبقى إلا النظر في تأثير المرأة نفسها، وتأثير الدين والمجتمع عليها. أما بالنسبة للدين فقد بينا في مقالة سابقة أن الإسلام يعتبر المرأة مثل الرجل تماما من حيث التفكير والإبداع، وأنها ليست ناقصة عقل كما هو دارج ومفهوم خطأ. وهذا يعني أن المعوقات محصورة في المرأة نفسها وفي المجتمع. ولا شك أن واقع المرأة يفرض عليها قيودا من حيث الوظيفة التي وجدت من أجلها، وهي الأمومة. وكذلك ما يطرأ عليها من تغيرات جسدية كثيرة تعوقها عن الانخراط في عملية الإبداع. كما أن المجتمع فرض قيودا كثيرة وصارمة بهدف الحفاظ على المرأة، وخوفا من إلحاق الأذى بغيرها. ويجب ألا يغيب عن بالنا أن المرأة نفسها قد تستمرئ الركون إلى مثل هذه الوقائع وتكيف نفسها معها، ثم مع مرور الزمن تصبح أسيرة لها ولا تخرج عن نطاقها، بل ربما آمنت بهذه الأفكار عن يقين.

إبداع المرأة في القرآن والسنة

سجل لنا القرآن الكريم والسنة المطهرة نماذج عظيمة تدل على قدرة المرأة على التفكير والإبداع إذا ما أتيح لها المجال. وهذه النماذج التي سنعرض لبعضها ما هي إلا أمثلة واقعية تعكس حالة عامة، تتمثل في قدرة المرأة على التفكير والعطاء بصفتها إنسانا يتميز بخاصية التفكير، وليست حالات شاذة كما يحلو للبعض أن يصفها بها، في محاولة يائسة لتعميق صفة نقص العقل بالمرأة.

ملكة مصر وبقية النسوة

تكشف لنا قصة امرأة حاكم مصر وبقية النسوة مع سيدنا يوسف جوانب عديدة من المواقف التي تدل على الذكاء وسرعة البديهة والأساليب الإبداعية. فقد وصف القرآن الكريم النساء بأن كيدهن عظيم، والكيد يعني التفكير والتخطيط بمكر ودهاء. يمكن تلخيص مواقف ملكة مصر الذكية كالتالي:

1- التفكير في بعض الاحتمالات المتوقعة، واتخاذ الاحتياطات اللازمة لذلك، مثل تغليق الأبواب.

2- سرعة البديهة في موقف مفاجئ واستخدام أسلوب العكس وهو من التفكير الجانبي الإبداعي. فقد عكست الأمر على سيدنا يوسف عليه السلام لتبعد الشبهة عن نفسها، ولكي تصرف الانتباه إلى الطرف الآخر.

3- اقتراح العقوبة التي يجب أن تحل بسيدنا يوسف بوصفه معتديا عليها. فهي أعطت نقطة البدء في العقوبة، فتكون سهلت على الملك ما يمكن أن يفكر فيه. واقتراح العقوبة والمطالبة بها يدرأ عنها الشبهة في أنها هي الطالبة له، وهذا يعني أنه هو المذنب.

4- نوع العقوبة -وهي السجن- يعني ابتعاده عنها مع شدة شغفها له، وهذا يشعر الآخرين أنها لا تريده ولا تحبه. كما أن العذاب الأليم فيه نوع قسوة توحي أنها لا تشفق عليه، وأنه معتد يستحق العقوبة.

5- هذا الموقف وما قدمته من اقتراحات يدل على ضبط الأعصاب مع هول المفاجأة، لأن زوجها بالباب، ومع ذلك تحكمت في عواطفها وفكرت بعقلها، على عكس ما يشاع من أن المرأة عاطفية أكثر منها عقلانية.

6- أيضا في تلويحها بشدة العقوبة محاولة لإلقاء الرعب في قلب يوسف لعله يستجيب فيما بعد، لأنه يمكن أن تطلب له العفو من الملك، وتختلق الأعذار من أنه شاب صغير، وهي حسناء أو غير ذلك.

7- كما أنها حاولت استمالة زوجها إلى صفها بالإشارة إلى أن هناك من حاول أذية أهله، في محاولة لتعظيم الأمر في نفسه، وإغراءً له وتهييجا.

8- الخطة الماكرة التي أعدتها للإيقاع ببقية النسوة. فقد توقعت انبهارهن بيوسف، وأن ذلك سيؤدي إلى شرود أذهانهن وجرح أصابعهن. وأرادت أن تؤكد أن هذا أمر لا سبيل إلى مقاومته، فلا لوم عليها إن أذيع عنها ذلك.

9- بينت الملكة بهذه الخطة الماكرة أن البرهان العملي هو أصدق الإثباتات والدلائل.

10- أما مكر بقية النسوة فإنه يتمثل في تعريضهن بالملكة من أنها تهوى خادمها، وهذا أمر لا يليق بمكانتها. وقد قلن: إنها تحبه، مع أنها أظهرت غير ذلك عندما اقترحت العقوبات الشديدة السابقة وكذلك التلويح بالعذاب الأليم. كما أن تعريضهن بها يظهر في قولهن إنها تراود فتاها، أي لا تزال تفعل، وليس مجرد مرة واحدة، وأنهن يرينها في ضلال مبين، ففيه تلميح بأن الأمر ليس مجرد رأي لهن، بل هو رأي شائع في الناس.

مريم بنت عمران

أرسل الله إليها مَلَكا في صورة بشر، فتفاجأت به عندما دخل عليها في المكان المعزول الذي اتخذته بعيدا عن أعين الناس. لكنها تماسكت وواجهت الموقف وتعوذت بالله، ثم ذكرته بتقواه، أي وجهت نظره إلى الأثر الفعال الذي يمكن أن يصدر عنه بصفته تقيا يخاف الله، فتتجنب بذلك الضرر الذي يمكن أن يلحقه بها. وهذا ما ينبغي أن تتمرن عليه كل امرأة مسلمة في مواجهتها للرجال بأن تذكرهم بالله وتقواه إن لمست منهم شرا، ولا تخاف ولا تضطرب، فتأخذ بالصراخ والعويل وغيره من التصرفات الغريزية الأخرى. {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18].

كما أن مريم البتول ناقشت الملَك بطريقة عقلية، وحصرت الاحتمالات التي يمكن أن يكون بها لها ولد، ونفتها عن نفسها. ومع صعوبة هذا الموقف فقد تمالكت نفسها، وضبطت عواطفها، وتحكمت فيها، على الرغم من كل ما يقال بأن المرأة تغلب عليها العاطفة.

أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها

فقد كان لها تجارة تديرها وتشرف عليها، كما أن مواقفها مع الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على حسن تدبيرها وعقلها الواعي. فقد هدأت من روعه -عليه السلام- لما نزل عليه الوحي، وذكّرته بما هو عليه من الصفات الحميدة، وطمأنت نفسه، ثم أخذته عند ورقة بن نوفل. وهذا درس عظيم في التحكم بالعواطف، وفي التغلب على الموانع وتهدئة النفوس، ومن ثم إدراك عواقب الأمور؛ لأنه لو تراجع الرسول عن هذا الأمر لما قامت للإسلام قائمة.

أم سلمة رضي الله عنها

حيث أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأيها يوم الحديبية بشأن أصحابه حينما امتنعوا عن الحلق والتقصير، فأشارت عليه بأن يحلق رأسه ويخرج للناس، فكان أن تبعه الناس كلهم بعدما امتنعوا عن الاستجابة لأمره. ثم أشارت عليه أن يعجل بالسفر بهم ففعل ولم يعترضوا. فبدلا من الدخول في جدل ومحاولات للإقناع دخل الرسول في العمل مباشرة بناء على رأي أم سلمة السديد.

هذا غيض من فيض من إبداعات المرأة في القرآن والسنة، وما قدمناه هو أمثلة نموذجية تظهر قدرة المرأة على التفكير والإبداع وتغيير مجرى الأحداث. كما أنه يبين قدرة المرأة على التحكم في عواطفها، مما يؤهلها -وفق الظروف المناسبة- للقيام بما يوكل إليها على أتم وجه

تأريخ النشر: الأربعاء 8 ربيع الثاني 1425هـ الموافق 26 مايو 2004مسيحية

طبعت هذه المقالة من ( أوابد :: مدونة عبد الرحمن بن ناصر السعيد )
على الرابط التالي
http://www.awbd.net/article.php?a=16
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع